كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال المفضل تجزي تقضي وتجزأ مهموزة تكفي وتغني والدليل على الأول قول أبي قيس بن الأسلت:
لا نألم القتل ونجزي به الـ ** ـأعداء كيل الصاع بالصاع

نذودهم عنا بمستنة ** ذات عرانين ودفاع

وعلى القول الثاني:
لقد آليت أغدر في جداع ** ولو منيت أمات الرباع

لأن الغدر في الأقوام عار وأن المرأيجزأ بالكراع بلاء من ربكم يقال في الاختيار بالخير والشر البلاء وقيل البلاء في الشر والإبلاء في الخير واستعملهما زهير في الخير فقال:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

ولآية تحتمل المعنيين في ذبح أبنائكم بلاء أي محنة وفي تنجيتكم من آل فرعون بلاء أي نعمة وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة أربعين ليلة ليس بظرف لأن الوعد ليس فيها كلها ولا بعضها وإنما الوعد انقضاء الأربعين فيكون نصبها على أنه المفعول الثاني ومعنى المواعدة على أنه كان من موسى وعد أيضا أو قبوله الوعد وتحريه للوفاء به كان كالوعد وذم اليهود المخاطبين باتخاذ العجل وإن لم يفعلوا لرضاهم بما فعلته أسلافهم وكذلك المنة بقوله وإذ نجيناكم.
كما قال الأخطل لجرير:
ولقد سما لكم الهنديل فنالكم ** بإراب حيث نفسم الأنفالا

في فيلق يدعو الأراقم لم يكن ** فرسانه عزلا ولا أكفالا

ولم يدرك جرير الهذيل وإنما كان ذلك يوما جاهليا لتغلب على تميم.
{وإذ ءاتينا موسى الكتب والفرقان} ليس هو كالكلام المثنى الذي يفيد فائدة واحدة كقولهم بعدا وسحقا ولكن كقوله: {إنه حكيم عليم}. وقيل الفرقان فرق الله بهم البحر وقيل إنه الفرج من الكرب كقوله يجعل لكم فرقانا أي فرجا ومخرجا وقيل الفرقان صفة الكتاب والواو زائدة كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

{فاقتلوا أنفسكم} ذلك عقوبة للذين لم ينكروا العجل مع العلم بفساده كراهة القتال.
وتأويله قتل البعض بعضا والاستسلام للقتل ولا يجوز مباشرة كل واحد قتل نفسه لأن الأوامر الشرعية مصالح والمصلحة في المستقبل وليس للمرء بعد قتله نفسه حال يصلح فيها وإنما لم يسقط القتل بالتوبة لأنه وجب حد لا جزاء وحكى الحكم بن عمر الرعيني قال أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة أسأله عن حروف من القرآن منها قوله فاقتلوا أنفسكم فقال إنما هو فاقتالوا من الاستقالة والرواية المعروفة عن قتادة أنهم غشيتهم ظلمة فقاموا يتناحرون بالشفار فلما بلغ الله نقمته منهم انجلت الظلمة وسقطت الشفار من أيديهم فكان ذلك للحي توبة وللمقتول شهادة.
{ثم بعثناكم} أحييناكم وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله لموسى قالوا ولكنا لا نعلم أنه كلام الله فليظهر لنا جهرة أي عيانا لنشهد لك عند بني اسرائيل فأماتهم الله بالصاعقة ثم أحياهم إلى بقية آجالهم وقيل أنهم سمعوا جرس الكلام ولم يفهمه إلا موسى ولم يطلع موسى عليه أحد وقربنه نجيا أي ناجيناه على خلوة والقرية التي أمروا بدخولها بيت المقدس والباب باب القبة التي كان يصلي إليها موسى.
{سجدا} أي ركعا خضعا كما قال فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف وليس المراد السجود الشرعي وهو إلصاق الوجه بالأرض لأنه يمتنع الدخول معه ولكن حالهم في طلب التوبة وحط الخطيئة توجب أن يدخلوه خاضعين حطة أي دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا.
والذين بدلوا إما قولا فإنهم قالوا حنطة بدل حطة استهزاء وإما فعلا فإنهم دخلوا على استاههم والرجز العذاب من الرجز وهو داء يصيب الإبل وذلك العذاب أنهم طعنوا فهلك كبارهم وانفجار الماء من الحجر لا نقول إنه كان فيه فظهر ولكن إما أن يكون الله عز وجل جعل يخلقه ويجريه أو يجعل بعض الأجسام المتصلة بذلك الحجر ماء بأعراض يخلقها فيه لأن الجواهر واحدة في الطينة ثم تختلف وتتبدل بالأعراض المخلوقة فيها كما شرحنا هذا النوع من المعنى في كتاب الغلالة في مسألة اليمين على شرب ماء من الكوز ولا ماء في الكوز وإنما جاء في الأعراف انبجست والانبجاس رشح الماء وهاهنا انفجرت وهو خروجه بكثرة وغزارة لأنه انبجس الماء ابتداء ثم انفجر كما قال في العصا مرة إنها جان وهي الحية الصغيرة لأنها ابتدأت كذلك ومرة إنها ثعبان وهي الكبيرة لأنها انتهت إليه ولا تعثوا عاث وعثا إذا أفسد فساد خبط وعدوان وقال مفسدين لأن بعض العيث باطنه صلاح كخرق الخضر السفينة وقتلة الغلام والفوم الحنطة حكي المبرد فوموا لنا وأنشد قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم وقيل بل هو الثوم فأبدلت الثاء بالفاء كقولهم جدث وجدف وأنشد الكسائي كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل والفوم والبصل لا يليق بألفاظ القرآن في فصاحته وجلالة مرتبته ولكنها حكاية عنهم وإخبار عن دناءة أنفسهم كما حكي قولهم راعنا.
وضربت عليهم الذلة أي الجزية والمسكنة الخضوع وذلك دأب اليهود ولم تضرب عليهم الذلة بسؤالهم هذه الحبوب لأنه أمر مباح ولأن في شهوة الإنسان التي هي من خلق الله تلون الأطعمة عليه وقلة الصبر على طعام واحد ولذلك اتصلت بمسألتهم الإجابة بقوله فإن لكم ما سألتم ولكن الذلة والمسكنة بما ذكره الله بعد وهو ذلك بأنهم كانوا يكفرون إن الذين آمنوا والذين هادوا أي من آمن بمحمد ومن هو من أهل الكتاب كلهم سواء إذا آمنوا في مستقبل عمرهم وعملوا الصالحات فلهم أجرهم لا تختلف حال الآخر باختلاف الأحوال المتقدمة وعلى هذا قوله يأيها الذين آمنوا ءامنوا بالله أي في مستقبل عمركم.
وسموا اليهود لأنهم هادوا أي تابوا وقيل للنسبة إلى يهوذا بن يعقوب والنصاري لنزول عيسى قرية ناصرة فكان يقال له عيسى الناصري ثم نسب قومه إليه والصابئون قوم يقرءون الزبور ويصلون إلى القبلة لكنهم يعظمون الكواكب لا على وجه العبادة وهذا مذهب أبي حنيفة رحمة الله فيهم حتى جوز التزوج بنسائهم.
وقيل بل هم قوم انحرفوا ومالوا عن الأديان لأنه مهموز من صبأت النجوم وصبأ ناب الصبي وصبأ الرجل إذا خرج عن أرضه فكأنهم خرجوا عن الأديان وغير مهموز وبه قرأ نافع من صبا يصبوا إذا مال إلى الشيء قال وضاح اليمن:
صبا قلبي ومال إليك ميلا ** وأرقني خيالك يا أثيلا

يمانية تلم بنا فتبدى ** دقيق محاسن وتُكنُّ غيّلا

فعلى هذا سموا صابئين لأنهم مالوا عن الأديان، ويجوز أن يكون الصابى غير مهموز بمعنى المهموز إلا أنه قلبت الهمزة، وقلب الهمز يجوز عند غير سيبويه، وسيبويه لا يجيزه في غير الشعر.
قال أبو زيد: قلت لسيبويه: سمعتُ قريتَ وأخطيتَ، قال: فكيف تقول في المضارع؟ قلت: أقرأُ. فقال: حسبك: قل لى كيف يصح همز بعض الأمثلة وقلب بعض؟
وإنما ارتفع: {ولا خوف} لأن الأحسن في لا نكرة أنه إذا عطف على اسمها اسم أن يرتفعا على تقدير جواب السؤال، قال:
وما هجرتكِ حتى قلتِ معلنةً ** لا ناقة لى في هذا ولا جملُ

{ورفعنا فوقكم الطور}.
قيل: إنه واو الحال كأنه: وإذ أخذنا ميثاقكم في حال رفع الطور، والأحسن أن تكون واو العطف، فإنها لا توجب الترتيب؛ لأن الماضى لا يكون حالًا إلا بقد.
{خاسئين} مبعدين، أى عن الرحمة خسأت الكلبَ خسْأً فخسأ خُسوءًا.
{فجعلنها} أى المسخة التي مسخوها، ويجوز أن يعود الضمير إلى العقوبة، فإن النكال: هي العقوبة التي ينكل بها عن الأقدام، من النكل وهو القيد.
{لما بين يديها وما خلفها} من القرى، وقيل من الأمم الآتية والماضية.
{أتتخذنا هزؤا} الهزء حدث، فلا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا إلا أن يكون التقدير أصحاب هزء، أو يكون الهزء المهزوء مثل خلق الله، وهذا ضرب بغداد، ومثل الصيد في قوله: {أحل لكم صيد البحر} وتخفيف الزاى من هزء لتوالى ضمتين، وقلب الهمز واو؛ لأنها أخف من همزة بعد ضمتين.
والفارض: المسنة.
والفاقع: الخالص الصفرة.
{لا شية} لا علامة من لون آخر، يقال: وشَى يشِى وشْيًا وشِيَة.
{وما كادوا يفعلون} لغلاء ثمنها، وقيل: لخوف الفضيحة.
{فادارئتم} تدافعتم، أى دفع كل قبيل عن نفسه، وكان أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال، وجلبت لسكونها ألف الوصل، وأصل هذه الكلمة من الدرء وهو الاعوجاج.
قال الهذلى:
تهال العقاب أن تمر بِرَيْدِهِ ** وتَرْمى دررُه دونَه بالأجادلِ

{فقلنا اضربوه ببعضها} فيه حذف، وهو ليحيى فضرب فحيى، والحكمة فيه أن يكون الأمر في وقت إحيائه أليهم، ثم بضربهم إياه بموات، فيكون ظهور القتيل بالقتيل أقوم في الحجة وأبعد من الظِّنةِ.
وسبب القصة: أن شيخا موسرا قتله ورثته بنو أخيه وألقوه في محلة أخرى، وطلبوا الدية، فسألوا موسى فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فظنوه هزء بهم لمَّا لمْ يكن في ظاهره جوابهم، فاستعاذ بالله من الهزء، وعدَّه من الجهل.
والتقديم والتأخير في أشباه هذه الآيات على مذهب العرب، قال الأنصارى:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ** مهلا لقد أبلغت أسماعي

أنْكرتِهِ حين توسمْتِه ** والحرب غُول ذاتِ أوجاعِ

وذلك أن أبا قيس هذا غاب في حرب الأوس والخزرج عن أهله شهرا، حتى شَحُبَ وتغيَّر، فجاء ليلة إلى امرأته كبشة بنت ضمرة فدفعته وأنكرته، فعرفها نفسه، فذلك قولها، ولم تقصد لقيل الخنا أنكرته حين توسمته، وجوابه وعذره عن التغير مهلا لقد أبلغت أسماعي، والحرب غُول ذاتِ أوجاعِ، وكذلك في قصيدة تأبط شرًا:
يا عيد مالك من شوق وإبراق

أبيات تقديم وتأخير {فهى كالحجارة أو أشد} قال الفراء: معناه بل أشد كقول ذى الرمة:
بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى ** وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَح

وقال قطرب: هي بمعنى الواو كقول توبة بنت الحُمَيِّر:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ** لنفسي تُقاها أو عليها فجورها

والمبرد يرد ذلك عليهما، ويحملها على الشك كما هو وضعها، ويقول: إن هذا الكلام خطاب من الله لخلقه فكأنه قال: {أو أشد قسوة} عندكم كقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
وأما البيتان فأو فيهما أيضا على أصلها من الشك، أما بيت ذى الرمة فإن الشك في مثله أدمث وأغزل كقوله:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ** وبين النقا أأنت أمْ أُمُّ سالمِ

وأما بيت توبة، فتقديره: لنفسى تقاها إن اتقت، وإن فجرت عليها فجورها.
بين ذلك أن أحوال القلوب تختلف وقسوتها تزداد وتنتقص، فلم يخبر عنها بحال واحدة {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.
قرأ قتادة: يهبُطُ على أصل الباب أن فَعَلَ المتعدى يجئ على يَفْعِلُ مكسور العين، كضرب يضرب، وحبس يحبس، فَعَلَ غير المتعدى يجئ على يَفْعُلُ مضموم العين، كقعد يقعد، وخرج يخرج.
وقيل إن هبط هنا متعد ومعناه لما يهبط غيره من طاعة الله أي إذ رآه الإنسان خشع لطاعة الله فحذف المفعول تخفيفا لدلالة المكان عليه وقد جاء هبط متعديا كما جاء لازمًا قال ما راعني إلا جناح هابطا على البيوت قوطه العلابطا فأعلمه في القوط وأما من قال إن يهبط لازم فتأويل هبوط الحجارة من خشية الله مع أنه جماد لا يعرف الخشية ما قاله المبرد إن الذي فيها من الهبوط والهوى لاسيما عند الرجفة العظيمة والزلزلة الهائلة وانقياد لأمر الله الذي لو كان مثله من حي قادر لدل على أنه خاش لله كما قال جرير لما أتى خبر الزبير تهدمت سور المدينة والجبال الخشع.
وقال آخر لها حافر مثل قعب الوليد تتخذ الفأر فيه مغارا أي لو اتخذت فيه مغارا لغوره وتقعبه لوسعها لا أنها تتخذه ومثله مسألة الكتاب أخذتنا بالجود وفوقه أي لو كان فوق الجود شيء من المطر قد أخذتنا به فكلام العرب لمن عرفه ومن الذي يعرفه ألطف من السحر وأنقى من غرة النجم ألا ترى إلى عنترة كيف أسفر عن وجه هذا المعني فقال:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ** ولكان لو علم الكلام مكلمي

وقالت الأعرابية:
وأبرزتني للناس حتى تركتني ** لهم غرضا أرمي وأنت سليم

ولو أن قولا يكلم الجلد قد بدا ** بجلدي من قول الوشاة كلوم

وقال آخر:
لو كان هذا الشمس تصبغ لمة ** صبغت شواتي طول ما أنا حاسر

أو شاب عين شاب أسود ناظري ** من طول ما أنا في العجائب ناظر

{وأحاطت به خطيئته} أهلكته وأربقته كقوله: {إلا أن يحاط بكم} {وأحيط بثمره} وقيل أحاطت بحسنته خطيئته فأحبطتها إذ كان المحيط أكثر من المحاط به إلا أماني إلا أكاذيب وقيل إلا التلاوة الظاهرة وقيل إلا ما يقدرونه على رأيهم وأهوائهم ومنه المنا وهو القدر {وقولوا للناس حسنا} أي قولا ذا حسن وقيل حسنا أي حسنا فأقيم المصدر مقام الاسم كقولك رجل عدل ورضي ويجوز أن يكون الحسن والحسن كلاهما اسما كالعرب والعرب والعجم والعجم أقررتم رضيتم قال الفرزدق:
ألست كليبيا إذا سيم سوءة ** أقر كإقرار الحليلة للبعل

وكل كليبي صفيحة وجهه ** أذل لأقدام الرجال من النعل

{ثم أنتم هؤلاء} أي يا هؤلاء وقيل تقديره ثم أنتم تقتلون وهؤلاء تأكيد لأنتم وقفينا أتبعنا قفوته سرت في قفاه وروح القدس جبريل عن الحسن.
والإنجيل عن ابن زيد وعن ابن عباس أنه الاسم الذي كان يحيى الموتي والأول أقرب لأن الملائكة هم الأرواح الطاهرة ولأن جبريل عليه السلام هو النازل بالوحي الذي يحيي به العقول حياة الأبدان بالأرواح الهوائية وكذلك الإضافة إلى القدس توجب هذا على اختلافهم أنه الله أو الطهر أو البركة وتخصيص جبريل بعيسى لأنه أيد به وهو في المهد بل نفخه.
غلف جمع أغلف وهو الذي لا يفهم كأن قلبه في غلاف يقال سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف لم يختن وقيل غلف أوعية للعلم أي قلوبنا قد أمتلأت من العلم فلا موضع فيها لما تقول فالأول صحيح لأن كثرة العلم لا تمنع من المزيد بل تعين عليه فقليلا ما يؤمنون كقوله: {فلا يؤمنون إلا قليلا} وقيل معناه بقليل يؤمنون فترجع القلة إلى ما يؤمنون به وفي الأول إلى مؤمنيهم.
{مصدق لما معهم} من صفة الرسول المخبر به في التوراة وأنهم به ينصرون فكانوا يستفتحون بمبعثه ويستنصرون حتى قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وتصفونه وجواب لما جاءهم محذوف عند الأخفض لدلالة الحال عليه وعند المبرد جوابه وجواب فلما جاءهم المكرر تأكيدا هو قوله كفروا به وقال الفراء فاء فلما جواب ولما وكفروا جواب فلما كقولك قوله: {فإما يأتينكم مني هدي فمن تبع هداي}.
{بئسما اشتروا} به أي بئس شيئا اشتروا به أي باعوا به أنفسهم لأن الغرض واحد وهو إبدال ملك بملك وموضع أن يكفروا خفض على موضع الهاء في به على البدل عند البصريين والتكرير عند الكوفيين ويجوز فعله على قولك نعم رجلا زيد كأنه قيل من الممدوح فقلت هو زيد وهو الحق مصدقا انتصب مصدقا بمعنى الحال والعامل فيه معني الفعل كقولك هو زيد حقا وهو زيد معروفا فأما هو زيد قائما فلا يصح حالا لأن الحال لا يعمل فيها إلا فعل أو معني فعل وصح هو زيد معروفا لأن تقديره أعرف ذلك عرفانا.
وإنما جاز فلم تقتلون من قبل والمراد لم قتلتم لأنه كالصفة اللازمة لهم كقولك للكذاب لم تكذب وأنت تريد لما كذبت ولأن قرينة الحال تصرف اللفظ إلى الماضي وإن كانت الصيغة للاستقبال كقولك من دخل داري إذا علقت به الجزاء انصرفت إلى المستقبل ولن يتمنوه أبدا اعترض ابن الرواندي بأنهم ربما تمنوا بقلوبهم فمن أين علم أنهن لن يتمنوا بالقلوب فيبطل التحدي بالتمني والجواب أن التمني لا يعرف إلا بالقول وله صيغة في اللغة وهي ليت وهي لا يخاطب بالتمني والمراد مالا يمكن الوقوف عليه.
{بمزحزحه} بمباعده قال المتلمس على كلهم أسى وللأصل زلفة فزحزح عن الأدنين أن يتصدعوا وقد كان إخواني كريما جوارهم ولكن أصل العود من حيث ينزع فإنه نزله على قلبك ردا لمعاداتهم جبريل أي لو نزله غير جبريل لنزله أيضا على الحد.
{أو كلما عاهدوا} الله العهد الذي نبد أنهم أعانوا قريشا يوم الأحزاب واتبعوا يعني اليهود ما تتلوا الشيطين يعني شياطين الإنس من السحر وما كفر سليمن ما سحر لأن السحر عند الله كفر وذلك أن اليهود تنكر نيوة سليمان عليه السلام وتزعم أنه ظهر بعد موته من تحت كرسيه كتب السحرة وهو إما فعلها سليمان لئلا يعمل بها الناس أو السحرة بعده افتعلوها لتفخيم السحر تمويها أنه كان يستسخر الجن والإنس به ولذلك قال تتلوا الشيطين على ملك سليمان تنبيها على كذبهم لأن في الصديق يقال تلا عنه وفي الكذب تلا عليه كما قال الفرزدق في رجل كان يخطئه في بعض شعره ويلحته لقد كان في مغدان والفيل زاجر لعنبسة الراوي على القصائدا والسحر تخييل قلب الشيء عن حقيقته بسبب خفي وهو من نتائج الكلمات المؤلفة من الشرك والأفعال الصادرة عن الإفك مع تعظيم شياطين الجن وهذا لا يليق شيء منه بملك سليمان وما أنزل على الملكين أي واتبعوا ما أنزل على الملكين والذي أنزل على لسان الملكين من السحر ليعلما ما السحر وكيف الاحتيال به إذ كانت السحرة كثروا في ذلك الزمان فانزلا ليعلما الناس فساد السحر ليجتنبوه كما روي أن رجلا قال لعمر أما أن فلا أعرف الشر فقال أوشك أن تقع فيه ومنه قيل عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.
{إنما نحن فتنة} خبرة فتنت الذهب اختبرته أي يظهر بما تتعلمون منا حالكم في اجتناب السحر الذي نعلم فساده والعمل به كما يظهر حال المكلف المبتلى بكل ما نهي عنه فيتعلمون منهما أي مكان ما علماهم من تقبيح السحر وفساده والاحتراس من مضارة ما يفرقون به كقول الشاعر:
جمعت من الخيرات وطبا وعلبة ** وصرا لأخلاف المضابرة البزل

ومن كل أخلاق الكرام نميمة ** وسعيا على الجار المجاور بالمحل

وقال آخر:
كأن قد حضرت الناس يوم تقسمت ** مكارمهم فاخترت منهن أربعا

إعارة سمع كل مغتاب صاحب ** وتأبي لعيب الناس إلا تتبعا

وأعظم من هذين أنك تدعي ** البراءة من عيب البرية أجمعا

وأنك لو قارفت فعل إساءة ** وجوزيت بالحسن جحدتهما معا

وتفريق الساحر بين المرء وزوجه بالتبغيض وقيل إذا عمل بالسحر كفر فحرمت عليه زوجته وابن بحر يذهب إلى الجحد في ما أنزل ويصرف فيتعلمون منهما إلى السحر والكفر إذ تقدم الدليل عليهما وهو ولكن الشيطين كفروا.
وإنما دعاه إلى ترك الظاهر ومخالفة من يقدمه تحاشيه من إضافة السحر إلى الملائكة وأنه أضاف القبيح وإنزاله إلى الله ولم يحضروه أن تعليم القبيح للاجتناب عنه واجب وأن علمه لا يناسب العمل بإذن الله بعلم الله وقيل بتخلية الله وقيل بفعل الله وإرادته لأن الضرر الحاصل بالسحر وإن كان لا يرضاه الله فهو من فعله عند السبب الواقع من الساحر كما لو سقاه سما فهلك به وإنما قال لو كانوا يعلمون مع قوله ولقد علموا لأنه في فريقين فريق عاند وفريق جهل.
وقيل إنما نفي العلم عنهم مع علمهم لأنهم لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا كما وصف كعب بن زهير ذئبًا تبعاه ليصيبا من زاده لنا راعيا سوء مضيعان منهما أبو جعدة العادي وعرفاء جيأل إذا حضراني قلت لو تعلمانه ألم تعلما أني من الزاد مرمل ولو أنهم ءامنوا محذوف الجواب لأن شرط الفعل بلو يقتضي الجواب بالفعل كأنه قيل ولو أنهم آمنوا لأثيبوا ولا المثوبة لام الابتداء كقولك علمت لأنت خير منه.
{راعنا} أي ارعنا سمعك كما نرعيك فنهوا عن لفظ المفاعلة لأنها تنبئ عن المماثلة انظرنا افهمنا وقيل انظر إلينا وقيل انتظرنا كقول المثقب فإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غدا لناظره قريب.
{ما ننسخ من ءاية} النسخ رفع حكم شرعي إلى بدل منه كنسخ الشمس بالظل وقيل إنه بيان مدة المصلحة والمصالح تختلف بالأوقات والأعيان والأحوال فكذلك الأحكام ألا ترى أن الله يصرف بين السراء والضراء لمصالح العباد وقول ابن بحر في امتناع نسخ من القرآن ظاهر الخلاف وتأويله بين التعسف وهذه الآية بعد نزول السور الكثيرة على وجه الشرط والجزاء الخالص للاستقبال وعلى أنها نزلت منبهة على جميع حكم النسخ وأقسامه من إثبات حكمه أبدا وإلى غاية ومن إزالة حكمه ببدل ومن إزالته إلى بدل وإلى المثل وإلى الخير ونمن إزالة نفس الحفظ والكتابة وعلى أن الآية إذا أطلقت فهم بها آيات القرآن وعلى أنه إذا لم يمتنع نسخ ما تقدم من الكتب بالقرآن لا يمتنع نسخ بعضه ببعض وعلى أن نسخ القبلة الأولى وثبات الواحد للعشرة والتخيير في الصوم وتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول ومهادنة المشركين وإتيان الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا وعدة المتوفى عنها زوجها إلى الحول كلها في القرآن وقراءة ما ننسخ لا وجه لها لأنه إن قيل نسخ وأنسخ واحد فلم نسمع بذلك وإن قيل إنه همزة النقل أي ما ننزل من آية أو ننسها نأت بخير منها فليس كل ما أنزل من القرآن أتي بخير منه وإن قيل نحمل على نسخها كقوله: {فأجاءها المخاض} أي حملها على المجئ فليس غير الله ينسخ ليكون هو حامل الناسخ على النسخ وكذلك نجدها منسوخة كقوله: {حتى أنسوكم ذكري} أي وجدوكم ناسين تاركين لأنه يقتضي أن يكون النسخ من الغير أو متقدما على وجوده كذلك وإن قيل نجعل لها نسخا كقوله: {ثم أماته فأقبره} أي جعل له قبرا فهو بعيد من الاستعمال أيضا أو ننسها أو نتركها فلا نبدلها كقوله: {نسوا الله فنسيهم} أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وكقولك واذكر ربك إذا نسيت أي تركت إذ لا يمكن الذكر مع النسيان.
قال:
وما نسي الرامون لي في أديمكم ** مصحا ولكني أرى مترقعا

وقيل ننسها من قلوب الحافظين وذلك إما بترك تلاوته فنسي على الأيام أو في الحال معجزة القرآن وننسأها نؤخها فلا ننسخها يقال نسأته قال ابن هرمه:
أعلم أني طريق عالية ** من المنايا قد كنت أنسأها

إن مصاب المنون يتبعه ** ولو تمادي لابد مخطؤها

وهذا التأخير على أوجه تأخير التلاوة والحكم فلا ينزل البتة وتأخير التلاوة مع بقاء الحكم كآية الرجم وتأخير الحكم مع بقاء التلاوة كسائر ما ننسخ من القرآن نأت بخير منها في التخفيف كالأمر بقتال الواحد العشرة نسخ بقتال الواحد الاثنين كما قال عز وجل: {الئن خفف الله عنكم} وقيل بخير منها في المصلحة وهذا أولى لأن الله يدبر عباده على ما هو أصلح لهم لا على ما هو أخف عليهم ولأن الأخف داخل في الأصلح.
{أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى} وذلك أن قريشا سألت أن يحول لهم الصفا ذهبا فقال لكم كالمائدة لبني اسرائيل فسكتوا فاعفوا فاتركوهم واصفحوا أعرضوا بصفحة وجوهكم عنهم فيكون الصفح بمعنى إعراض الصفحة كما أن الإعراض بها إقبال في قول الشاعر:
أفاطم أعرضي قبل المنايا ** كفى بالموت صدا واجتنابا

أي أقبلي بعرض وجهك هودا يهودا أسقطت الياء الزائدة.
وقال الأخفش هو جمع هائد كحول وحائل أسلم وجهه لله أخلص عبادته كقوله: {رجلا سالما} أي خالصا قال زيد بن عمرو بن نفيل فأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا وأسلمت نفسي لمن أسلمت له المزن تحمل ماء زلالا وإنما وحد فله أجره وجمع ولا خوف عليهم لأن من من أسماء الجنس قال الفرزدق:
وأطلس عسال وما كان صاحبا ** رفعت أثاري موهنا فأتاني تعش

فإن عاهدتني لا تخونني فأينما تولوا قال ابن عباس نزلت في سفر من الصحابة صلوا بالتحري في ليلة مظلمة لغير القبلة.
وعن ابن عمر أنه أنها في صلاة السفر راكبا وصلاة الخوف إذا تزاحفوا وتسايفوا وقيل أنه في تقرر معني نسخ القبلة الأولى حين اعترضت اليهود عليها فكأنه قيل أن المشرق والمغرب لله الذي له ولا مكان في موضع منهما ووجوه الأشياء وجهات الأماكن كلها له فأينما تولوا فثم الوجه الذي يتقربون به إلى الله أو فثم الاتجاه إلى الله فموضع الفعل مكان الافتعال والاسم موضع المصدر كما قال استغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل والواسع من سعة الرحمة والنعمة فيصرف عباده على ما هو أصلح لهم وأعود عليهم كل له قنتون دائمون تحت تدبيره وتقديره فيدخل فيه البر والفاجر والصامت والناطق وكذلك على تأويل من قال خاضعون لقدرته وشاهدون بما فيهم من آثار الصنعة على وحدانيته كما قيل:
ولله في كل تحريكة ** وتسكينة أبدا شاهد

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

أمرًا فإنما يقول له كن فيكون قيل إنه حقيقة في الأمر وأن الأمر من الله جل وعز جامع لكل ما يحدثه عن إبداع واختراع أو يخلقه على توليد وترتيب فكل بأمره عند قوله كن وقيل أنه على التمثيل أي يطيع الكون لأمره في الحال كالشيء الذي يقال له كن فيكون إلا أن هناك قول كقول الشاعر:
فقالت له العينان سمعا وطاعة ** وحدرتا كالدر لما يثقب

ونظائره كثيرة.
وارتفاع فيكون إما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فهو يكون وإما على العطف وذلك أن كن أمر لفظا ولكن معناه الخبر كقوله: {أسمع بهم} أي ما أسمعهم وتقديره يقول له يكون فيكون ولا يجوز حمله على جواب الأمر لأن الأمر وجوابه فيهما شرط وجزاء ولهذا يكون إن مقدرة فيها وليس ذلك في كن فيكون ولأن جواب الأمر غير الأمر مثل قولك زرني فأكرمك وقوله كن فيكون واحد لأن الكون الموجود هو الكون المأمور والكسائي ينصب فيكون في سورتي النحل ويس لا على جواب الأمر بالفاء ولكن بالعطف على وقوله أن نقول وأن يقول أو تأتينا آية إنما لم يؤتوا ما سألوا لأن صلاحهم فيها أو فسادهم أو هلاكهم إذا عصوا بعدها إو إصرارهم على التكذيب معها كما فعلته ثمود أو لا يعلمه إلا الله وإذا ابتلى إبراهيم ربه الابتلاء حقيقته الاختبار ومجازه من الله تكليف ما يشق على الإنسان لينال بفعله الثواب ولما كان أكثر ما يكلف بعضنا بعضا يجري على الاختبار والامتحان خاطبنا الله بما نتفاهم به في مثل هذا الموضع وقال أبو بكر الرازي من العدل أن يعاملنا الله في أوامره معاملة الممتحن المبتلى لا العالم الخبير ليقع جزاؤه على عملنا لا على علمه بنا.
والكلمات التي ابتلى بها هي السنن العشر خمسا في الجسد وخمسا في الرأس وحده وقيل مناسك الحج وقيل بالنجوم حين استدل بها على التوحيد وقيل بالهجرة عن الوطن وبقري الأضياف في المال وبالذبح في الولد وبالنار في البدن مثابة موضعا للثواب وقيل مرجعا ومصيرا وأصله مثوبة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع وذلك بما جعل الله في القلوب من تعظيم البيت والحج من البلاد النائية والمواضع القاصية ومن الرجوع إليه مرة بعد مرة وعاما بعد عام قال الشاعر:
مثابا لأفناء القبائل كلها ** تخب إليه اليعملات الذوامل

وأمنا أي من ظهور الجبابرة عليه وصد الحجيج عنه وقيل أمنا للخائف إذا عاذ به ولجأ إليه فقد كانت الجاهلية والإسلام يرى للحرم في الإنسان وغيره قال الفرزدق:
ألم يأته أني تخلل ناقتي ** بمكة أطراف الأراك النواعم

مقلدة ترعى الأراك ورحلها ** بمكة ملقى عائذ بالمحارم

وقال كثير:
فدعني أكن ما دمت حيا حمامة ** من القاطنات البيت غير الروائم

ونحن بحمد الله نتلو كتابه ** حلولا بهذا الخيف خيف المحارم

بحيث الحمام أمن الروع ساكن ** وحيث العدو كالصديق المسالم

واتخذوا الواو عطف على معني وإذ جعلنا البيت مثابة لأنه يضمن ثوبوا واتخذوا، ومقام إبراهيم الموضع الذي فيه أثر قدمه عن الحسن وعن ابن عباس أن الحج كله مقام إبراهيم وارزق أهله من الثمرات من ءامن كان عليه السلام سأل لما جعله الله إماما أن يجعل ذريته كذلك فقال عز وجل: {لا ينال عهدي الظالمين} فصار ذلك تعليما له في المسألة وتأديبا فتأدب به وخص بالدعاء المؤمنين واجعلنا مسلمين لك أمدنا من التوفيق بما نبقى معه على الإسلام.
وقيل إن المراد تسليم النفس وإخلاص العمل لله وتب علينا أشعرنا التحرر عما تكرهه وقيل إنه على وجه السنة والتعليم ليقتدي بهما فيه ربنا وابعث فيهم أي في ذريتهم التي سأل أن يجعلها مسلمة وهم أمة محمد رسول وهو محمد صلى الله عليه وباتفاق جميع المفسرين ولذلك قال عليه السلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى».
{سفه نفسه} قال ابن الأعرابي سفه الرجل يسفه سفاهة وسفاها إذا جهل وسفه نفسه يسفهها إذا جهلها وأنشد هيهات قد سفهت أمية رأيها فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها كلاهما بالرفع كما نشرحه في كتاب بعد هذا مفرد في معاني أبيات هذا الكتاب وقال الفراء في انتصاب نفسه أنها على التشبيه بالتمييز كقوله عز وجل: {فإذا طبن لكم عن شيء منه نفسا}.
وأنكر عليه الزجاج وقال لا يحتمل التمييز التعريف والإضافة عرفت النفس واعتذر للفراء أن الانفصال مقدر في هذه الإضافة كما تقول مررت برجل مثلك أي مثل لك وقال أبو عبيده سفه نفسه أوبقها وأهلكها ووجدت في شعر قيس بن عاصم:
رأيت الخمر طيبة وفيها ** خصائص تفسد الرجل الكريما

فلا والله أشربها حياتي ** ولا أدعوا لها أبدا نديما

إذا دارك حمياها تعلت ** طوالع تسفه الرجل الحليما

وقال الزجاج معناه سفه في نفسه فلما حذفت في انتصب الاسم بنزع الخافض كقوله تعالى: {أن تسترضعوا أولادكم} أي لأولادكم.
{ولا تعزموا عقدة النكاح} أي عليها وقال الشاعر:
تغالي اللحم للأضياف نيئا ** ونبدره إذا نضج القدور

أي باللحم.
وأصوب هذه الأقاويل وأمثالها أن سفه نفسه بمعني جهلها لأن الفعل إذا كان بمعنى آخر تتسع العرب فتوقع أحدهما موقع الآخر كما قال الله تعالى: {بطرت معيشتها} أي سخطتها لأن البطر ساخط للنعمة يتعرض لزوالها ألا ترى إلى إجراء المصدر على غير فعل إذا كان في معناه، نحو قوله:
وإن شئتم تعاودنا عوادا

ومنه قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا}.